الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
فلما اقترب أهل الشام إليهم خطب سليمان أصحابه فرغبهم في الآخرة وزهدهم في الدنيا، وحثهم على الجهاد، وقال: إن قتلت فالأمير عليكم المسيب بن نجبة، فإن قتل فعبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل فعبد الله بن والٍ، فإن قتل فرفاعة بن شداد. ثم بعث بين يديه المسيب بن نجبة في خمسمائة فارس، فأغاروا على جيش ابن ذي الكلاع وهم عارون، فقتلوا منهم جماعة وجرحوا آخرين، واستاقوا نعماً. وأتى الخبر إلى عبيد الله بن زياد فأرسل بين يديه الحصين بن نمير في اثني عشر ألفاً، فصبح سليمان بن صرد وجيشه واقفون في يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى، وحصين بن نمير قائم في اثني عشر ألفاً، وقد تهيأ كل من الفريقين لصاحبه. (ج/ص: 8/279) فدعا الشاميون أصحاب سليمان إلى الدخول في طاعة مروان بن الحكم، ودعا أصحاب سليمان الشاميين إلى أن يسلموا إليهم عبيد الله بن زياد فيقتلونه عن الحسين، وامتنع كل من الفريقين أن يجيب إلى ما دعا إليه الآخر، فاقتتلوا قتالاً شديداً عامة يومهم إلى الليل، وكانت الدائرة فيه للعراقيين على الشاميين. فلما أصبحوا أصبح ابن ذي الكلاع وقد وصل إلى الشاميين في ثمانية عشرة ألف فارس، وقد أنّبه وشتمه ابن زياد، فاقتتل الناس في هذا اليوم قتالاً لم ير الشيب والمرد مثله قط، لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الليل. فلما أصبح الناس من اليوم الثالث وصل إلى الشاميين أدهم بن محرز في عشرة آلاف، وذلك في يوم الجمعة، فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى حين ارتفاع الضحى، ثم استدار أهل الشام بأهل العراق، وأحاطوا بهم من كل جانب. فخطب سليمان بن صرد الناس وحرضهم على الجهاد، فاقتتل الناس قتالاً عظيماً جداً، ثم ترجل سليمان بن صرد وكسر جفن سيفه ونادى: يا عباد الله، من أراد الرواح، إلى الجنة والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فليأت إليَّ. فترجل معه ناس كثيرون وكسروا جفون سيوفهم، وحملوا حتى صاروا في وسط القوم. وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، وقُتل سليمان بن صرد أمير العراقيين، رماه رجل يقال له: يزيد بن الحصين بسهم فوقع، ثم وثب، ثم وقع، ثم وثب ثم وقع، وهو يقول: فزت ورب الكعبة، فأخذ الراية المسيب بن نجبة فقاتل بها قتالاً شديداً وهو يقول: قد علمت ميالة الذوائب * واضحة اللبات والترائب أني غداة الروع والتغالب * أشجع من ذي لبدةٍ مواثب قصاع أقرانٍ مخوف الجانب ثم قاتل قتالاً شديداً فقضى ابن نجبة نحبه، ولحق في ذلك الموقف صحبه رحمهم الله، فأخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل فقاتل قتالاً شديداً أيضاً. وحمل حينئذ ربيعة بن مخارق على أهل العراق حملة منكرة، وتبارز هو وعبد الله بن سعد بن نفيل، ثم اتحدا فحمل ابن أخي ربيعة على عبد الله بن سعد فقتله. ثم احتمل عمه فأخذ الراية عبد الله بن والٍ، فحرض الناس على الجهاد وجعل يقول: الرواح إلى الجنة -وذلك بعد العصر - وحمل بالناس ففرق من كان حوله ثم قتل - وكان من الفقهاء المفتيين - قتله أدهم بن محرز الباهلي أمير حرب الشاميين ساعتئذٍ. (ج/ص: 8/280) فأخذ الراية رفاعة بن شداد فانحاز بالناس وقد دخل الظلام، ورجع الشاميون إلى رحالهم، وانشمر رفاعة بمن بقي معه راجعاً إلى بلاده، فلما أصبح الشاميون إذا العراقيون قد كروا راجعين إلى بلادهم، فلم يبعثوا وراءهم طلباً ولا أحداً لما لقوا منهم من القتل والجراح. فلما وصلوا إلى هيت إذا سعد بن حذيفة بن اليمان قد أقبل بمن معه من أهل المدائن، قاصدين إلى نصرتهم، فلما أخبروه بما كان من أمرهم وما حل بهم، ونعوا إليه أصحابهم ترحموا عليهم واستغفروا لهم، وتباكوا على إخوانهم، وانصرف أهل المدائن إليها، ورجع راجعة أهل الكوفة إليها، وقد قتل منهم خلق كثير وجم غفير. وإذا المختار بن أبي عبيد كما هو في السجن لم يخرج منه، فكتب إلى رفاعة بن شداد يعزيه فيمن قتل منهم ويترحم عليهم، ويغبطهم بما نالوا من الشهادة، وجزيل الثواب ويقول: مرحباً بالذين أعظم الله أجورهم ورضي عنهم، والله ما خطا منهم أحد خطوة إلا كان ثواب الله له فيها أعظم من الدنيا وما فيها. إن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه الله وجعل روحه في أرواح النبيين والشهداء والصالحين، وبعد: فأنا الأمير المأمون، قاتل الجبارين والمفسدين إن شاء الله، فأعدوا واستعدوا وأبشروا، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بدماء أهل البيت. وذكر كلاماً كثيراً في هذا المعنى. وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن ربه الذي كان يأتي إليه من الشياطين، فإنه قد كان يأتي إليه شيطان فيوحي إليه قريباً مما كان يوحي شيطان مسيلمة إليه، وكان جيش سليمان بن صرد وأصحابه يسمى بجيش التوابين رحمهم الله. وقد كان سليمان بن صرد الخزرجي صحابياً جليلاً نبيلاً عابداً زاهداً، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في (الصحيحين) وغيرهما، وشهد مع علي صفين، وكان أحد من كان يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين، وكتب إلى الحسين فيمن كتب بالقدوم إلى العراق. فلما قدمها تخلوا عنه، وقتل بكربلاء بعد ذلك، ورأى هؤلاء أنهم كانوا سبباً في قدومه، وأنهم خذلوه حتى قتل هو وأهل بيته، فندموا على ما فعلوه معه، ثم اجتمعوا في هذا الجيش وسموا جيشهم جيش التوابين، وسموا أميرهم سليمان بن صرد أمير التوابين، فقتل سليمان رضي الله عنه في هذه الوقعة بعين وردة سنة خمس وستين. وقيل: سنة سبع وستين، والأول أصح. وكان عمره يوم قتل ثلاثاً وتسعين سنة رحمه الله. وحمل رأسه ورأس المسيب بن نجبة إلى مروان بن الحكم بعد الوقعة. (ج/ص: 8/281) وكتب أمراء الشاميين إلى مروان بما فتح الله عليهم وأظفرهم من عدوهم، فخطب الناس وأعلمهم بما كان من أمر الجنود ومن قتل من أهل العراق، وقد قال: أهلك الله رؤوس الضلال سليمان بن صرد وأصحابه. وعلق الرؤوس بدمشق، وكان مروان بن الحكم قد عهد بالأمر من بعده إلى ولده عبد الملك، ثم من بعده عبد العزيز، وأخذ بيعة الأمراء على ذلك في هذه السنة، قاله ابن جرير وغيره. وفيها: دخل مروان بن الحكم، وعمرو بن سعيد الأشدق إلى الديار المصرية فأخذاها من نائبها الذي كان لعبد الله بن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدم، وكان سبب ذلك أن مروان قصدها فخرج إليه نائبها ابن جحدم فقابله مروان ليقاتله فاشتغل به. وخلص عمرو بن سعيد بطائفة من الجيش من وراء عبد الرحمن بن جحدم فدخل مصر فملكها، وهرب عبد الرحمن، ودخل مروان إلى مصر فملكها، وجعل عليها ولده عبد العزيز. وفيها: بعث ابن الزبير أخاه مصعباً ليفتح له الشام، فبعث إليه مروان عمرو بن سعيد فتلقاه إلى فلسطين فهرب منه مصعب بن الزبير وكر راجعاً ولم يظفر بشيء. واستقر ملك الشام ومصر لمروان. وقال الواقدي: إن مروان حاصر مصر فخندق عبد الرحمن بن جحدم على البلد خندقاً، وخرج في أهل مصر إلى قتاله، وكانوا يتناوبون القتال ويستريحون، ويسمى ذلك يوم التراويح. واستمر القتل في خواص أهل البلد فقتل منهم خلق كثير، وقتل يومئذ عبد الله بن يزيد بن معدي كرب الكلاعي أحد الأشراف. ثم صالح عبد الرحمن مروان على أن يخرج إلى مكة بماله وأهله، فأجابه مروان إلى ذلك، وكتب إلى أهل مصر كتاب أمان بيده، وتفرق الناس وأخذوا في دفن موتاهم والبكاء عليهم. وضرب مروان عنق ثمانين رجلاً تخلفوا عن مبايعته، وضرب عنق الأكيدر بن حملة اللخمي، وكان من قتلة عثمان، وذلك في نصف جمادى الآخر يوم توفي عبد الله بن عمرو بن العاص. فما قدروا أن يخرجوا بجنازته، فدفنوه في داره واستولى مروان على مصر وأقام بها شهراً، ثم استعمل عليها ولده عبد العزيز، وترك عنده أخاه بشر بن مروان، وموسى بن نصير وزيراً له، وأوصاه بالإحسان إلى الأكابر ورجع إلى الشام. وفيها: جهز مروان جيشين، أحدهما مع حبيش بن دلجة العتيبـي ليأخذ له المدينة، وكان من أمره ما سنذكره. والآخر مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعه من نواب ابن الزبير، فلما كانوا ببعض الطريق لقوا جيش التوابين مع سليمان بن صرد وكان من أمرهم ما تقدم ذكره. واستمر جيش الشاميين ذاهباً إلى العراق، فلما كانوا بالجزيرة بلغهم موت مروان بن الحكم. وكانت وفاته في شهر رمضان من هذه السنة، وكان سبب موته أنه تزوج بأم خالد امرأة يزيد بن معاوية، وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة. (ج/ص: 8/282) وإنما أراد مروان بتزويجه إياها ليصغر ابنها خالداً في أعين الناس، فإنه قد كان في نفوس كثير من الناس منه إن يملكوه بعد أخيه معاوية، فتزوج أمه ليصغر أمره. فبينما هو ذات يوم داخل إلى عند مروان، إذ جعل مروان يتكلم فيه عند جلسائه، فلما جلس قال له فيما خاطبه به: يا ابن الرطبة الأست. فذهب خالد إلى أمه فأخبرها بما قال له، فقالت: اكتم ذلك ولا تعلمه أنك أعلمتني بذلك. فلما دخل عليها مروان قال لها: هل ذكرني خالد عندك بسوء؟ فقالت له: وما عساه يقول لك، وهو يحبك ويعظمك؟ ثم إن مروان رقد عندها، فلما أخذه النوم عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه وتحاملت عليها هي وجواريها حتى مات غماً، وكان ذلك في ثالث شهر رمضان سنة خمس وستين بدمشق، وله من العمر ثلاث وستون سنة. وقيل: إحدى وثمانون سنة، وكانت إمارته تسعة أشهر. وقيل: عشرة أشهر إلا ثلاثة أيام. هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أبو عبد الملك ويقال: أبو الحكم. ويقال: أبو القاسم، وهو صحابي عند طائفة كثيرة لأنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه في حديث صلح الحديبية. وفي رواية (صحيح البخاري) عن مروان، والمسور بن مخرمة، عن جماعة من الصحابة الحديث بطوله. وروى مروان عن عمر، وعثمان وكان كاتبه - أي: كان كاتب عثمان - وعلي، وزيد بن ثابت، وبسيرة بنت صفوان الأزدية وكانت حماته. وقال الحاكم أبو أحمد: كانت خالته، ولا منافاة بين كونها حماته وخالته. وروى عنه ابنه عبد الملك، وسهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومجاهد وغيرهم. قال الواقدي، ومحمد بن سعد: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه شيئاً، وكان عمره ثمان سنين حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين، وقد كان مروان من سادات قريش وفضلائها. روى ابن عساكر وغيره أن عمر بن الخطاب خطب امرأة إلى أمها فقالت: قد خطبها جرير بن عبد الله البجلي وهو سيد شباب المشرق، ومروان بن الحكم وهو سيد شباب قريش، وعبد الله بن عمر وهو من قد علمتم. فقالت المرأة: أجادٌّ يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قالت: قد زوجناك يا أمير المؤمنين. وقد كان عثمان بن عفان يكرمه ويعظمه، وكان كاتب الحكم بين يديه، ومن تحت رأسه جرت قضية الدار، وبسببه حصر عثمان بن عفان فيها. وألح عليه أولئك أن يسلم مروان إليهم فامتنع عثمان أشد الامتناع، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالاً شديداً، وقتل بعض الخوارج، وكان على الميسرة يوم الجمل، ويقال: إنه رمى طلحة بسهم في ركبته فقتله فالله أعلم. (ج/ص: 8/283) وقال أبو الحكم: سمعت الشافعي يقول: كان علي يوم الجمل حين انهزم الناس يكثر السؤال عن مروان فقيل له في ذلك. فقال: إنه يعطفني عليه رحم ماسة، وهو سيد من شباب قريش. وقال ابن المبارك: عن جرير بن حازم، عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر أنه قال لمعاوية: من تركت لهذا الأمر من بعدك؟ فقال: أما القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، مروان بن الحكم. وقد استنابه على المدينة غير مرة، يعزله ثم يعيده إليها، وأقام للناس الحج في سنين متعددة. وقال حنبل: عن الإمام أحمد، قال: يقال: كان عند مروان قضاء، وكان يتتبع قضايا عمر بن الخطاب. وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: وذكر مروان يوماً فقال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة ثم أصبحت فيما أنا فيه، من إهراق الدماء وهذا الشأن. وقال إسماعيل بن عياش: عن صفوان بن عمرة، عن شريح بن عبيد وغيره. قال: كان مروان إذا ذكر الإسلام قال: بنعمت ربي لا بما قدمت يدي * ولا بتراثي إنني كنت خاطئاً وقال الليث عن يزيد بن حبيب، عن سالم أبي النضر أنه قال: شهد مروان جنازة فلما صلى عليها انصرف، فقال أبو هريرة: أصاب قيراطاً وحرم قيراطاً، فأخبر بذلك مروان فأقبل يجري حتى بدت ركبتاه، فقعد حتى أذن له. وروى المدائني عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد: أن مروان كان أسلف علي بن الحسين حتى يرجع إلى المدينة بعد مقتل أبيه الحسين ستة آلاف دينار، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع من علي بن الحسين شيئاً، فبعث إليه عبد الملك بذلك فامتنع من قبولها، فألح عليه فقبلها. وقال الشافعي: أنبأنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن الحسن والحسين كانا يصليان خلف مروان ولا يعيدانها، ويعتدان بها. وقد روى عبد الرزاق: عن الثوري، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من قدم الخطبة على الصلاة يوم العيد مروان. فقال له رجل: خالفت السنة. فقال له مروان: إنه قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). قالوا: ولما كان نائباً بالمدينة كان إذا وقعت معضلة جمع من عنده من الصحابة فاستشارهم فيها. قالوا: وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها فنسب إليه الصاع، فقيل: صاع مروان. وقال الزبير بن بكار: حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثني ابن أبي علي اللهبي، عن إسماعيل بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه. قال: خرج أبو هريرة من عند مروان فلقيه قوم قد خرجوا من عنده فقالوا له: يا أبا هريرة، إنه أشهدنا الآن على مائة رقبة أعتقها الساعة.(ج/ص: 8/284) قال: فغمز أبو هريرة يدي، وقال: يا أبا سعيد، بك من كسب طيب خير من مائة رقبة. قال الزبير: البك الواحد. وقال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بلغ بنو أبي فلان ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله دولاً، ودين الله دخلاً، وعباد الله خولاً)). ورواه أبو يعلى عن زكريا بن زحمويه، عن صالح بن عمر، عن مطرف، عن عطية، عن أبي سعيد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دخلاً، وعباد الله خولاً، ومال الله دولاً)). وقد رواه الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب، عن أبي المغيرة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن أبي ذر. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلاً)). وذكره، وهذا منقطع. ورواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة من قوله: ((إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً)) فذكره. ورواه البيهقي وغيره من حديث ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن ابن وهب، عن معاوية، وعبد الله بن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين اتخذوا مال الله بينهم دولاً، وعباد الله خولاً، وكتاب الله دغلاً، فإذا بلغوا ستة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة)). وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عبد الملك بن مروان فقال: ((أبو الجبابرة الأربعة)). وهذه الطرق كلها ضعيفة. وروى أبو يعلى وغيره من غير وجه، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بني الحكم يرقون على منبره وينزلون، فأصبح كالمتغيظ، وقال: ((رأيت بني الحكم ينزون على منبري نزو القردة)). فما رئُي رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً بعد ذلك حتى مات. ورواه الثوري عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب مرسلاً وفيه: ((فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها)). فقرت عينه وهي قوله: وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة موضوعة، فلهذا أضربنا صفحاً عن إيرادها لعدم صحتها. وقد كان أبوه الحكم من أكبر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أسلم يوم الفتح، وقدم الحكم المدينة ثم طرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ومات بها. ومروان كان أكبر الأسباب في حصار عثمان لأنه زور على لسانه كتاباً إلى مصر بقتل أولئك الوفد، ولما كان متولياً على المدينة لمعاوية كان يسب علياً كل جمعة على المنبر. وقال له الحسن بن علي: لقد لعن الله أباك الحكم وأنت في صلبه على لسان نبيه فقال: لعن الله الحكم وما ولد والله أعلم. (ج/ص: 8/285) وقد تقدم أن حسان بن مالك لما قدم عليه مروان أرض الجابية، أعجبه إتيانه إليه، فبايع له وبايع أهل الأردن على أنه إذا انتظم له الأمر نزل عن الأمرة لخالد بن يزيد، ويكون لمروان إمرة حمص، ولعمرو بن سعيد نيابة دمشق، وكانت البيعة لمروان يوم الاثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين، قاله الليث بن سعد وغيره. وقال الليث: وكانت وقعة مرج راهط في ذي الحجة من هذه السنة بعد عيد النحر بيومين. قالوا: فغلب الضحاك بن قيس، واستوثق له ملك الشام ومصر، فلما استقر ملكه في هذه البلاد بايع من بعده لولده عبد الملك، ثم من بعده لولده عبد العزيز - والد عمر بن عبد العزيز - وترك البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، لأنه كان لا يراه أهلاً للخلافة، ووافقه على ذلك مالك بن حسان، وإن كان خالاً لخالد بن يزيد، وهو الذي قام بأعباء بيعة عبد الملك، ثم إن أم خالد دبرت أمر مروان فسمته. ويقال: بل وضعت على وجهه وهو نائم وسادة فمات مخنوقاً، ثم إنها أعلنت الصراخ هي وجواريها وصحن: مات أمير المؤمنين فجأة. ثم قام من بعده ولده عبد الملك بن مروان كما سنذكره. وقال عبد الله بن أبي مذعور: حدثني بعض أهل العلم قال: كان آخر ما تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار، وكان نقش خاتمه العزة لله. وقال الأصمعي: حدثنا عدي بن أبي عمار، عن أبيه، عن حرب بن زياد قال: كان نقش خاتم مروان آمنت بالعزيز الرحيم. وكانت وفاته بدمشق عن إحدى. وقيل: ثلاث وستين سنة. وقال أبو معشر: كان عمره يوم توفي إحدى وثمانين سنة. وقال خليفة: حدثني الوليد بن هشام، عن أبيه، عن جده قال: مات مروان بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلى عليه ابنه عبد الملك، وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً. وقال غيره: عشرة أشهر. وقال ابن أبي الدنيا وغيره: كان قصيراً، أحمر الوجه أوقص، دقيق العنق، كبير الرأس واللحية، وكان يلقب خيط باطل. قال ابن عساكر: وذكر سعيد بن كثير بن عفير أن مروان مات حين انصرف من مصر بالصنبرة ويقال: بلد. وقد قيل: إنه مات بدمشق ودفن بين باب الجابية وباب الصغير. وكان كاتبه عبيد بن أوس، وحاجبه المنهال مولاه، وقاضيه أبو إدريس الخولاني، وصاحب شرطته يحيى بن قيس الغساني، وكان له من الولد عبد الملك، وعبد العزيز، ومعاوية، وغير هؤلاء، وكان له عدة بنات من أمهات شتى. (ج/ص: 8/286) بويع له بالخلافة في حياة أبيه، فلما مات أبوه في ثالث رمضان منها جددت له البيعة بدمشق ومصر وأعمالهما، فاستقرت يده على ما كانت يد أبيه عليه، وقد كان أبوه قبل وفاته بعث بعثين: أحدهما: مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعها من نواب ابن الزبير، فلقي في طريقه جيش التوابين مع سليمان بن صرد عند عين الوردة، فكان من أمرهم ما تقدم، من ظفره بهم، وقتله أميرهم وأكثرهم. والبعث الآخر: مع جيش بن دلجة إلى المدينة ليرتجعها من نائب ابن الزبير، فسار نحوها، فلما انتهى إليها هرب نائبها جابر بن الأسود بن عوف، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، فجهز نائب البصرة من قبل ابن الزبير وهو الحارث بن عبد الله بن ربيعة، جيشاً من البصرة إلى ابن دلجة بالمدينة، فلما سمع بهم حُبيش بن دلجة سار إليهم. وبعث ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد نائباً عن المدينة، وأمره أن يسير في طلب حُبيش، فسار في طلبهم حتى لحقهم بالربذة، فرمى يزيد بن سياه حُبيشاً بسهم فقتله، وقتل بعض أصحابه وهزم الباقون، وتحصن منهم خمسمائة في المدينة، ثم نزلوا على حكم عباس بن سهل فقتلهم صبراً، ورجع فلُّهم إلى الشام. قال ابن جرير: ولما دخل يزيد بن سياه الأسواري قاتل حبيش بن دلجة إلى المدنية مع عباس بن سهل كان عليه ثياب بياض وهو راكب برذوناً أشهب، فما لبث أن اسودت ثيابه ودابته مما يتمسح الناس به ومن كثرة ما صبوا عليه من الطيب و المسك. وقال ابن جرير: وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة. وفيها: قتل نافع بن الأزرق وهو رأس الخوارج ورأس أهل البصرة، مسلم بن عبيس فارس أهل البصرة، ثم قتله ربيعة السلوطي وقتل بينهما نحو خمسة أمراء، وقتل في وقعة الخوارج قرة بن إياس المزني أبو معاوية، وهو من الصحابة. ولما قتل نافع بن الأزرق رأست الخوارج عليهم عبيد الله بن ماحوز، فسار بهم إلى المدائن فقتلوا أهلها، ثم غلبوا على الأهواز وغيرها، وجبوا الأموال وأتتهم الأمداد من اليمامة والبحرين، ثم ساروا إلى أصفهان وعليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فالتقاهم فهزمهم، ولما قتل أمير الخوارج ابن ماحوز كما سنذكر، أقاموا عليهم قطري بن الفجاءة أميراً. (ج/ص: 8/287) ثم أورد ابن جرير قصة قتالهم مع أهل البصرة بمكان يقال له: دولاب، وكانت الدولة للخوارج على أهل البصرة، وخاف أهل البصرة من الخوارج أن يدخلوا البصرة، فبعث ابن الزبير فعزل نائبها عبد الله بن الحارث المعروف: بببّة، بالحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف: بالقباع. وأرسل ابن الزبير المهلب بن أبي صفرة الأزدي على عمل خراسان، فلما وصل إلى البصرة قالوا له: إن قتال الخوارج لا يصلح إلا لك. فقال: إن أمير المؤمنين قد بعثني إلى خراسان، ولست أعصي أمره. فاتفق أهل البصرة مع أميرهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على أن كتبوا كتاباً على لسان ابن الزبير إلى المهلب يأمره فيه بالمسير للخوارج ليكفهم عن الدخول إلى البصرة، فلما قرىء عليه الكتاب اشترط على أهل البصرة أن يقوي جيشه من بيت مالهم، وأن يكون له ما غلب عليه من أموال الخوارج، فأجابوه إلى ذلك. ويقال: إنهم كتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأمضى لهم ذلك وسوّغه، فسار إليهم المهلب. وكان شجاعاً بطلاً صنديداً، فلما أراد قتال الخوارج أقبلوا إليه يزفون في عدة لم ير مثلها من الدروع والزرود والخيول والسلاح، وذلك أن لهم مدة يأكلون تلك النواحي، وقد صار لهم تحمل عظيم مع شجاعة لا تدانا، وإقدام لا يسامى، وقوة لا تجارى، وسبق إلى حومة الوغى. فلما تواقف الناس بمكان يقال له: سل وسل أبرى اقتتلوا قتالاً شديداً عظيماً، وصبر كل من الفريقين صبراً باهراً، وكان في نحو من ثلاثين ألفاً، ثم إن الخوارج حملوا حملة منكرة، فانهزم أصحاب المهلب لا يلوي والد على ولد، ولا يلتفت أحد إلى أحد، ووصل إلى البصرة فُلاًّ لهم. وأما المهلب فإنه سبق المنهزمين فوقف لهم بمكان مرتفع، وجعل ينادي: إلى عباد الله، فاجتمع إليه من جيشه ثلاثة آلاف من الفرسان الشجعان، فقام فيهم خطيباً فقال في خطبته: أما بعد، أيها الناس، فإن الله تعالى ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، وأنتم فرسان الصبر وأهل النصر، وما أحب أن أحداً ممن انهزموا معكم الآن: ثم قال: عزمت على كل رجل منكم إلا أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا إلى عسكرهم فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيولهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لأرجو أن لا ترجع خيولهم إلا وقد استبحتم عسكرهم، وتقتلوا أميرهم. (ج/ص: 8/288) ففعل الناس ذلك، فزحف بهم المهلب بن أبي صفرة على معشر الخوارج فقتل منهم خلقاً كثيراً نحواً من سبعة آلاف، وقتل عبيد الله بن الماحوز في جماعة كثيرة من الأزارقة، واحتاز من أموالهم شيئاً كثيراً. وقد أرصد المهلب خيولاً بينه وبين الذين يرجعون من طلب المنهزمين، فجعلوا يقتطعون دون قومهم، وانهزم فلهم إلى كرمان وأرض أصبهان، وأقام المهلب بالأهواز حتى قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة، وعزل عنها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كما سيأتي قريباً. قال ابن جرير: وفي هذه السنة وجّه مروان بن الحكم قبل مهلكه ابنه محمداً إلى الجزيرة، وذلك قبل مسيره إلى مصر. قلت: محمد بن مروان هذا هو والد مروان الحمار وهو مروان بن محمد بن مروان، وهو آخر خلفاء بني أمية، ومن يده استلبت الخلافة العباسيون كما سيأتي. قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل ابن الزبير أخاه عبيد الله عن إمرة المدينة وولاها أخاه مصعباً، وذلك أن عبيد الله خطب الناس فقال في خطبته: وقد رأيتم ما صنع الله بقوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم. فلما بلغت أخاه قال: إن هذا لهو التكلف، وعزله. ويسمى عبيد الله مقِّوم الناقة لذلك. قال ابن جرير: وفي آخرها عزل ابن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وولى عليها عبد الله بن مطيع الذي كان أمير المهاجرين يوم الحرة، لما خلعوا يزيد. قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان الطاعون الجارف بالبصرة. وقال ابن الجوزي في (المنتظم): كان في سنة أربع وستين. وقد قيل: إنما كان في سنة تسع وستين، وهذا هو المشهور الذي ذكره شيخنا الذهبي وغيره، وكان معظم ذلك بالبصرة، وكان ذلك في ثلاثة أيام، فمات في أول يوم من الثلاثة من أهل البصرة سبعون ألفاً، وفي اليوم الثاني منها: إحدى وسبعون ألفاً، وفي اليوم الثالث منه ثلاثة وسبعون ألفاً. وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس، حتى ذكر أن أم الأمير بها ماتت فلم يوجد لها من يحملها، حتى استأجروا لها أربعة أنفس. وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدثنا عبيد الله، ثنا أحمد بن عصام، حدثني معدي، عن رجل، يكنى أبا النفيد، وكان قد أدرك من هذا الطاعون، قال: كنا نطوف بالقبائل، وندفن الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار وقد مات أهلها فنسد بابها عليهم. قال: فدخلنا داراً ففتشناها فلم نجد فيها أحداً حياً فسددنا بابها، فلما مضت الطواعين كنا نطوف فنفتح تلك السدد عن الأبواب، ففتحنا سدة الباب الذي كنا فتشناه - أو قال الدار التي كنا سددناه - وفتشناها فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين، كأنما أخذ ساعتئذ من حجر أمه. قال: فبينما نحن وقوف على الغلام نتعجب منه إذ دخلت كلبة من شق في الحائط فجعلت تلوذ بالغلام والغلام يحبو إليها حتى مص من لبنها. قال معدي: وأنا رأيت ذلك الغلام في مسجد البصرة وقد قبض على لحيته. (ج/ص: 8/289) قال ابن جرير: وفي هذه السنة بنى عبد الله بن الزبير الكعبة البيت الحرام، يعني: أكمل بناءها وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر. قال ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثني عبد العزيز بن خالد بن رستم الصنعاني، أبو محمد، حدثني زياد بن جبل: أنه كان بمكة يوم كان عليها ابن الزبير، فسمعته يقول: حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: ((لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم فأزيد في الكعبة من الحجر)). قال: فأمر ابن الزبير فحفروا فوجدوا تلاعاً أمثال الإبل، فحركوا منها تلعة - أو قال صخرة - فبرقت برقة فقال: أقروها على أساسها، فبناها ابن الزبير وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر. قلت: هذا الحديث له طرق متعددة عن عائشة في (الصحاح)، و(الحسان)، و(المسانيد)، وموضوع سياق طرق ذلك في كتاب (الأحكام) إن شاء الله تعالى. وذكر ابن جرير في هذه السنة حروباً جرت بين عبد الله بن خازم بخراسان، وبين الحرشي ابن هلال القزيعي يطول تفصيلها. قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله ابن أبي ربيعة المخزومي. وممن توفي فيها من الأعيان: عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل أبو محمد السهمي، كان من خيار الصحابة وعلمائهم وعبادهم، وكتب عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، أسلم قبل أبيه، ولم يكن أصغر من أبيه إلا باثني عشرة سنة. وكان واسع العلم مجتهداً في العبادة، عاقلاً، وكان يلوم أباه في القيام مع معاوية، وكان سميناً، وكان يقرأ الكتابين القرآن والتوراة. وقيل: إنه بكى حتى عمي، وكان يقوم الليل ويصوم يوماً ويفطر يوماً ويصوم يوماً. استنابه معاوية على الكوفة، ثم عزله عنها بالمغيرة بن شعبة، توفي في هذه السنة بمصر. وقتل بمكة عبد الله بن سعدة الفزاري، له صحبة، نزل دمشق. وقيل: إنه من سبي فزارة. ففيها: وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ليأخذوا ثأر الحسين بن علي فيما يزعم، وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد مسجوناً فكتب إليهم يعزيهم في سليمان بن صرد، ويقول: أنا عوضه وأنا أقتل قتلة الحسين. (ج/ص: 8/290) فكتب إليه رفاعة بن شداد وهو الذي رجع بمن بقي من جيش التوابين نحن على ما تحب، فشرع المختار يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية: أبشروا فإني لو قد خرجت إليهم جردت فيما بين المشرق والمغرب من أعدائكم السيف فجعلتهم بإذن الله ركاماً، وقتلهم أفراداً وتوأماً، فرحب الله بمن قارب منهم واهتدى، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى. فلما وصلهم الكتاب قرؤوه سراً وردوا إليه: إنا كما تحب، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك، فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية، وكانت امرأة صالحة، وزوجها عبد الله بن عمر بن الخطاب. فكتب إليه أن يشفع في خروجه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه، فلم يمكنهما رده، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر: قد علمتما ما بيني وبينكما من الود، وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله والسلام. فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه، واستحلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة، وكل مملوك له عبد وأمة حر، فالتزم لهما بذلك، ولزم منزله، وجعل يقول: قاتلهما الله، أما حلفاني بالله، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير. وأما إهدائي ألف بدنة فيسير، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الأمر ولا أملك مملوكاً واحداً، واجتمعت الشيعة عليه وكثر أصحابه وبايعوه في السر. وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة، وهم السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس، وأحمد بن شميط، ورفاعة بن شداد، وعبد الله بن شداد الجشمي. ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع، حتى عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وبعث عبد الله بن مطيع نائباً عليها، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائباً على البصرة. فلما دخل عبد الله بن مطيع المخزومي إلى الكوفة في رمضان سنة خمس وستين، خطب الناس وقال في خطبته: إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير أمرني أن أسير في فيئكم بسيرة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان. فقام إليه السائب بن مالك الشيعي فقال: لا نرضى إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا، ولا نريد سيرة عثمان - وتكلم فيه - ولا سيرة عمر، وإن كان لا يريد للناس إلا خيراً، وصدقه على ما قال بعض أمراء الشيعة. (ج/ص: 8/291) فسكت الأمير وقال: إني سأسير فيكم بما تحبون من ذلك. وجاء صاحب الشرطة وهو إياس بن مضارب البجلي إلى ابن مطيع فقال: إن هذا الذي يرد عليك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن من المختار، فابعث إليه فاردده إلى السجن فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له، وكأنك به وقد وثب في المصر. فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة وأميراً آخر معه، فدخلا على المختار فقالا له: أجب الأمير. فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتهيأ للذهاب معهما، فقرأ زائدة بن قدامة: فلما كان شهر المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب الأخذ بثأر الحسين فيما يزعم، فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر، ثم أنفذوا طائفة منهم إلى محمد بن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعا إليه. فلما اجتمعوا به كان ملخص ما قال لهم: إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه، وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد بن الحنفية، فكره ذلك وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه، فإنه لم يكن بإذن محمد بن الحنفية، وهمّ بالخروج قبل رجوع أولئك، وجعل يسجع لهم سجعاً من سجع الكهان بذلك. ثم كان الأمر على ما سجع به، فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية، فعند ذلك قوي أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبي عبيد. وقد روى أبو مخنف أن أمراء الشيعة قالوا للمختار: اعلم أن جميع أمراء الكوفة مع عبد الله بن مطيع وهم إلب علينا، وأنه إن بايعك إبراهيم بن الأشتر النخعي وحده أغنانا عن جميع من سواه. فبعث إليه المختار جماعة يدعونه إلى الدخول معهم في الأخذ بثأر الحسين، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه. فقال: قد أجبتكم إلى ما سألتم، على أن أكون أنا ولي أمركم. فقالوا: إن هذا لا يمكن، لأن المهدي قد بعث لنا المختار وزيراً له وداعياً إليه. فسكت عنهم إبراهيم بن الأشتر فرجعوا إلى المختار فأخبروه. (ج/ص: 8/292) فمكث ثلاثاً ثم خرج في جماعة من رؤوس أصحابه إليه، فدخل علي بن الأشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه، فدعاه إلى الدخول معهم، وأخرج له كتاباً على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة فيما قاموا فيه من نصرة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والأخذ بثأرهم. فقال ابن الأشتر: إنه قد جائتني كتب محمد بن الحنفية بغير هذا النظام. فقال المختار: إن هذا زمان وهذا زمان. فقال ابن الأشتر: فمن يشهد أن هذا كتابه؟ فتقدم جماعة من أصحاب المختار فشهدوا بذلك، فقام ابن الأشتر من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل. قال الشعبي: وكنت حاضراً أنا وأبي أمر إبراهيم بن الأشتر ذلك المجلس، فلما انصرف المختار قال إبراهيم بن الأشتر: يا شعبي ما ترى فيما شهد به هؤلاء؟ فقلت: إنهم قراء وأمراء ووجوه الناس، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون. قال: وكتمته ما في نفسي من اتهامهم، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للأخذ بثأر الحسين، وكنت على رأي القوم. ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة - سنة ست وستين -. وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة وألزم كل أمير أن يحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الأشتر قاصداً إلى دار المختار في مائة رجل من قومه، وعليهم الدروع تحت الأقبية، فلقيه إياس بن مضارب فقال له: أين تريد يا ابن الأشتر في هذه الساعة؟ إن أمرك لمريب، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الأمير فيرى فيك رأيه. فتناول ابن الأشتر رمحاً من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره فسقط، وأمر رجلاً فاحتز رأسه وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه. فقال له المختار: بشرك الله بخير، فهذا طائر صالح. ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة، فأمر المختار بالنار أن ترفع وأن ينادي شعار أصحابه: يا منصور أمت، يا ثارات الحسين. ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول: قد علمت بيضاء حسناء الطلل * واضحة الخدين عجزاء الكفل أني غداة الروع مقدام بطل وخرج بين يديه إبراهيم بن الأشتر فجعل يتقصد الأمراء الموكلين بنواحي البلد فيطردهم عن أماكنهم واحداً واحداً. وينادي بشعار المختار، وبعث المختار أبا عثمان النهدي فنادى بشعار المختار: يا ثارات الحسين. (ج/ص: 8/293) فاجتمع الناس إليه من ههنا وههنا، وجاء شبث بن ربعي فاقتتل هو والمختار عند داره وحصره حتى جاء ابن الأشتر فطرده عنه، فرجع شبث إلى ابن مطيع وأشار عليه أن يجمع الأمراء إليه، وأن ينهض بنفسه، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل. وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح، فقرأ فيها: {والنازعات غرقاً} و{عبس وتولى} في الثانية قال بعض من سمعه: فما سمعت إماماً أفصح لهجة منه. وقد جهز ابن مطيع جيشه ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي، وأربع آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب، فوجه المختار بن الأشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي. فأما ابن الأشتر فإنه هزم قرنه راشد بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث وقتله وجاء فأحاط بالمختار وحصره. وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحوه فاعترض له حسان بن فائد بن العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع، فاقتتلوا ساعة. فهزمه إبراهيم، ثم أقبل نحو المختار فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه، فما زال حتى طردهم فكروا راجعين، وخلص إبراهيم إلى المختار، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة. فقال له إبراهيم بن الأشتر: اعمد بنا إلى قصر الإمارة فليس دونه أحد يرد عنه. فوضعوا ما معهم من الأثقال، وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال، واستخلف على من هنالك أبا عثمان النهدي، وبعث بين يديه ابن الأشتر، وعبأ المختار جيشه كما كان، وسار نحو القصر. فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس وسار هو وابن الأشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن الذي قتل الحسين في ألفين آخرين، فبعث إليه المختار سعد بن منقذ الهمداني، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث. وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف، وخرج ابن مطيع من القصر في الناس، واستخلف عليه شبث بن ربعي، فتقدم ابن الأشتر إلى الجيش الذي مع ابن مساحق، فكان بينهم قتال شديد، قتل فيه رفاعة بن شداد أمير جيش التوابين الذين قدم بهم، وعبد الله بن سعد وجماعة غيرهم. ثم انتصر عليهم ابن الأشتر فهزمهم، وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة، فأطلقه، وكان لا ينساها بعد لابن الأشتر.(ج/ص: 8/294) ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثاً، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث فإنه لزم داره، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أماناً، فقال: ما كنت لأفعل هذا وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة. فقال له: فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفياً حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الأمر وبما كان منا في نصره وإقامة دولته. فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفياً حتى دخل دار أبي موسى الأشعري، فلما أصبح الناس أخذ الأمراء إليهم أماناً من ابن الأشتر فأمنهم، خرجوا من القصر وجاؤوا إلى المختار فبايعوه، ثم دخل المختار إلى القصر فبات فيه، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر. فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة، ثم دعا الناس إلى البيعة وقال: فوالذي جعل السماء سقفاً مكفوفاً والأرض فجاجاً سبلاً، ما بايعتم بعد بيعة علّي أهدى منها. ثم نزل فدخل الناس يبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بثأر أهل البيت، وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فأراه أنه لا يسمع قوله، فكرر ذلك ثلاثاً فسكت الرجل، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم. وقال له: اذهب فقد أخذت بمكانك - وكان له صديقاً قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى ابن الزبير وهو مغلوب، وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة، ووجد في بيت المال تسعة آلاف ألف. فأعطى الجيش الذين حضروا معه القتال نفقات كثيرة، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل اليشكري، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره، وقالوا: لأبي عمرة كيسان مولى غزينة - وكان على حرسه - قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا. فأنهى ذلك أبو عمرة إليه، فقال: بل هم مني وأنا منهم، ثم قال: فقال لهم أبو عمرة: أبشروا فإنه سيدنيكم ويقربكم، فأعجبهم ذلك وسكتوا. ثم إن المختار بعث الأمراء إلى النواحي والبلدان والرساتيق، من أرض العراق وخراسان، وعقد الألوية والرايات، وقرر الإمارة والولايات، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم بينهم، فلما طال ذلك عليه استقصى شريحاً فتكلم في شريح طائفة من الشيعة. (ج/ص: 8/295) وقالوا: إنه شهد حجر بن عدي، وأنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة كما أرسله به، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء. فلما بلغ شريحاً ذلك تمارض ولزم بيته، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضياً. ثم شرع المختار يتتبع قتلة الحسين من شريف ووضيع فيقتله، وكان سبب ذلك أن عبيد الله بن زياد كان قد جهزه مروان من دمشق ليدخل الكوفة، فإن ظفر بها فليبحها ثلاثة أيام، فسار ابن زياد قاصداً الكوفة فلقي جيش التوابين فكان من أمرهم ما تقدم. ثم سار من عين وردة حتى انتهى إلى الجزيرة فوجد بها قيس غيلان، وهم من أنصار ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب منهم قتلى كثيرة يوم مرج راهط، فهم إلب عليه، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فتعوق عن المسير سنة وهو في حرب قيس غيلان بالجزيرة. ثم وصل إلى الموصل فانحاز نائبها عنه إلى تكريت، وكتب إلى المختار يعلمه بذلك فندب المختار يزيد بن أنس في ثلاثة آلاف اختارها. وقال له: إني سأمدك بالرجال بعد الرجال. فقال له: لا تمدني إلا بالدعاء. وخرج معه المختار إلى ظاهر الكوفة فودعه ودعا له وقال له: ليكن خبرك في كل يوم عندي، وإذا لقيت عدوك فناجزك فناجزه، ولا تؤخر فرصة. ولما بلغ مخرجهم ابن زياد جهز بين يديه سريتين، إحداهما مع ربيعة بن مخارق ثلاثة آلاف، والأخرى مع عبد الله بن حملة ثلاثة آلاف، وقال: أيكم سبق فهو الأمير، وإن سبقتما معاً فالأمير عليكم أسنكما. فسبق ربيعة بن مخارق إلى يزيد بن أنس فالتقيا في طرف أرض الموصل مما يلي الكوفة، فتواقفا هنالك، ويزيد بن أنس مريض مدنف، وهو مع ذلك يحرض قومه على الجهاد، ويدور على الأرباع، وهو محمول مضنى وقال للناس: إن هلكت فالأمير على الناس عبد الله بن ضمرة الفزاري، وهو رأس الميمنة، وإن هلك فمسعر بن أبي مسعر رأس الميسرة، وكان ورقاء بن خالد الأسدي على الخيل. (ج/ص: 8/296) وهو وهؤلاء الثلاثة أمراء الأرباع، وكان ذلك في يوم عرفة من سنة ست وستين عند إضاءة الصبح، فاقتتلوا هم والشاميون قتالاً شديداً، واضطربت كل من الميمنتين والميسرتين، ثم حمل ورقاء على الخيل فهزمها وفر الشاميون وقتل أميرهم ربيعة بن مخارق. واحتاز جيش المختار ما في معسكر الشاميين، ورجع فرارهم فلقوا الأمير الآخر عبد الله بن حملة، فقال: ما خبركم؟ فأخبروه فرجع بهم وسار بهم نحو يزيد بن أنس فانتهى إليهم عشاء، فبات الناس متحاجزين، فلما أصبحوا توافقوا على تعبئتهم، وذلك يوم الأضحى من سنة ست وستين، فاقتتلوا قتالاً شديداً. فهزم جيش المختار جيش الشاميين أيضاً، وقتلوا أميرهم عبد الله بن حملة، واحتووا على ما في معسكرهم، وأسروا منهم ثلاثمائة أسير، فجاؤوا بهم إلى يزيد بن أنس وهو على آخر رمق، فأمر بضرب أعناقهم. ومات يزيد بن أنس من يومه ذلك وصلى عليه خليفته ورقاء بن عامر ودفنه، وسقط في أيدي أصحابه وجعلوا يتسللون راجعين إلى الكوفة، فقال لهم ورقاء: يا قوم، ماذا ترون؟ إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل في ثمانين ألفاً من الشام، ولا أرى لكم بهم طاقة، وقد هلك أميرنا، وتفرق عنا طائفة من الجيش من أصحابنا، فلو انصرفنا راجعين إلى بلادنا، ونظهر أنا إنما انصرفنا حزناً منا على أميرنا لكان خيراً لنا من أن نلقاهم فيهزموننا ونرجع مغلوبين، فاتفق رأي الأمراء على ذلك، فرجعوا إلى الكوفة. فلما بلغ خبرهم أهل الكوفة، وأن يزيد بن أنس قد هلك، أرجف أهل الكوفة بالمختار وقالوا: قتل يزيد بن أنس في المعركة وانهزم جيشه، وعما قليل يقدم عليكم ابن زياد فيستأصلكم ويشتف خضراكم. ثم تمالؤا على الخروج على المختار، وقالوا: هو كذاب، واتفقوا على حربه وقتاله وإخراجه من بين أظهرهم، واعتقدوا أنه كذاب. وقالوا: قد قدم موالينا على أشرافنا، وزعم أن ابن الحنفية قد أمره بالأخذ بثأر الحسين وهو لم يأمره بشيء، وإنما هو متقول عليه، وانتظروا بخروجهم عليه أن يخرج من الكوفة إبراهيم بن الأشتر فإنه قد عينه المختار أن يخرج في سبعة آلاف للقاء ابن زياد. فلما خرج ابن الأشتر اجتمع أشراف الناس ممن كان في جيش قتلة الحسين وغيرهم في دار شبث بن ربعي، وأجمعوا أمرهم على قتال المختار، ثم وثبوا فركبت كل قبيلة مع أميرها في ناحية من نواحي الكوفة، وقصدوا قصر الإمارة، وبعث المختار عمرو بن ثوبة بريداً إلى إبراهيم بن الأشتر ليرجع إليه سريعاً. (ج/ص: 8/297) وبعث المختار إلى أولئك يقول لهم: ماذا تنقمون؟ فإني أجيبكم إلى جميع ما تطلبون، وإنما يريد أن يثبطهم عن مناهضته حتى قدم إبراهيم بن الأشتر، وقال: إن كنتم لا تصدقونني في أمر محمد بن الحنفية فابعثوا من جهتكم وأبعث من جهتي من يسأله عن ذلك. ولم يزل يطاولهم حتى قدم ابن الأشتر بعد ثلاث فانقسم هو والناس فرقتين، فتكفل المختار بأهل اليمن، وتكفل ابن الأشتر بمضر، وعليهم شبث بن ربعي، وكان ذلك بإشارة المختار، حتى لا يتولى ابن الأشتر بقتال قومه من أهل اليمن فيحنو عليهم وكان المختار شديداً عليهم. ثم اقتتل الناس في نواحي الكوفة قتالاً عظيماً، وكثرت القتلى بينهم من الفريقين، وجرت فصول وأحوال حربية يطول استقاؤها، وقتل جماعة من الأشراف منهم عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الكندي، وسبعمائة وثمانين رجلاً من قومه، وقتل من مضر بضعة عشر رجلاً. ويعرف هذا اليوم بجبانة السبيع، وكان ذلك يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، ثم كانت النصرة للمختار عليهم، وأسر منهم خمسمائة أسير. فعرضوا عليه فقال: انظروا من كان منهم شهد مقتل الحسين فاقتلوه، فقتل منهم مائتان وأربعون رجلاً، وقتل أصحابه منهم من كان يؤذيهم ويسيء إليهم بغير أمر المختار، ثم أطلق الباقين، وهرب عمرو بن الحجاج الزبيدي، وكان ممن شهد قتل الحسين فلا يدري أين ذهب من الأرض. وهرب أشراف الكوفة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير، وكان ممن هرب لقصده شمر بن ذي الجوشن قبحه الله، فبعث المختار في أثره غلاماً له يقال: زرنب، فلما دنا منه قال شمر لأصحابه: تقدموا وذروني وراءكم بصفة أنكم هربتم وتركتموني حتى يطمع فيَّ هذا العلج. فساقوا وتأخر شمر فأدركه زرنب فعطف عليه شمر فدق ظهره فقتله، وسار شمر وتركه، وكتب كتاباً إلى مصعب بن الزبير وهو بالبصرة ينذره بقدومه عليه، ووفادته إليه، وكان كل من فر من هذه الوقعة يهرب إلى مصعب بالبصرة، وبعث شمر الكتاب مع علج من علوج قرية قد نزل عندها يقال لها: الكلبانية عند نهرٍ إلى جانب تلٍ هناك. فذهب ذلك العلج فلقيه علج آخر فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: إلى مصعب. (ج/ص: 8/298) قال: ممن؟ قال: من شمر. فقال: اذهب معي إلى سيدي، وإذا سيده أبو عمرة أميري حرس المختار، وهو قد ركب في طلب شمر فدله العلج على مكانه فقصده أبو عمرة، وقد أشار أصحاب شمر عليه أن يتحول من مكانه ذلك، فقال لهم: هذا كله فرق من الكذاب، والله لا أرتحل من ههنا إلى ثلاثة أيام حتى أملأ قلوبهم رعباً. فلما كان الليل كابسهم أبو عمرة في الخيل فأعجلهم أن يركبوا أو يلبسوا أسلحتهم، وثار إليهم شمر بن ذي الجوشن فطاعنهم برمحه وهو عريان، ثم دخل خيمته فاستخرج منها سيفاً وهو يقول: نبهتم ليث عرينٍ باسلا * جهماً محياه يدق الكاهلا لم ير يوماً عن عدوٍ ناكلا * إلا أكرَّ مقاتلاً أو قاتلا يزعجهم ضرباً ويروي العاملا ثم ما زال يناضل عن نفسه حتى قتل، فلما سمع أصحابه وهم منهزمون صوت التكبير، وقول أصحاب المختار: الله أكبر قتل الخبيث، عرفوا أنه قد قتل قبحه الله. قال أبو مخنف: عن يونس بن أبي إسحاق قال: ولما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر- يعني: منصرفه من القتال - ناداه سراقة بن مرداس بأعلا صوته وكان في الأسرى. أمنن عليّ اليوم يا خير معد * وخير من حل بشحر والجند وخير من لبى وصام وسجد قال: فبعث إلى السجن فاعتقله ليلة، ثم أطلقه من الغد، فأقبل إلى المختار وهو يقول: ألا أخبر أبا إسحاق أنا * نزونا نزوةً كانت علينا خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً * وكان خروجنا بطراً وشينا (ج/ص: 8/299) نراهم في مصافهم قليلاً * وهم مثل الربا حين التقينا برزنا إذ رأيناهم فلما * رأينا القوم قد برزوا إلينا رأينا منهم ضرباً وطحناً * وطعناً صائباً حتى انثنينا نصرت على عدوك كل يومٍ * بكل كثيبةٍ تنعى حسيناً كنصر محمدٍ في يوم بدرٍ * ويوم الشعب إذ لاقى حُنينا فاسجح إذ ملكت فلو ملكنا * لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبةً مني فإني * سأشكر إذ جعلت العفو دينا وجعل سراقة بن مرداس يحلف أنه رأى الملائكة على الخيول البلق بين السماء والأرض، وأنه لم يأسره إلا واحد من أولئك الملائكة، فأمره المختار أن يصعد المنبر فيخبر الناس بذلك. فصعد المنبر فأخبر الناس بذلك، فلما نزل خلا به المختار، فقال له: إني قد عرفت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت بقولك هذا: أني لا أقتلك، ولست أقتلك فاذهب حيث شئت لئلا تفسد على أصحابي. فذهب سراقة إلى البصرة إلى مصعب بن الزبير وجعل يقول: ألا أخبر أبا إسحاق أني * رأيت البلق دهماً مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذراً * عليّ قتالكم حتى الممات رأيت عيناي ما لم تبصراه * كلانا عالمٌ بالترهات إذا قالوا: أقول لهم كذبتم * وإن خرجوا لبست لهم أداتي (ج/ص: 8/300) قالوا: ثم خطب المختار أصحابه فحرضهم في خطبته تلك على من قتل الحسين من أهل الكوفة المقيمين بها، فقالوا: ما ذنبنا نترك أقواماً قتلوا حسيناً يمشون في الدنيا أحياء آمنين، بئس ناصرو آل محمد، إني إذاً كذاب كما سميتموني أنتم، فإني بالله أستعين عليهم. فالحمد لله الذي جعلني سيفاً أضربهم، ورمحاً أطعنهم، وطالب وترهم، وقائماً بحقهم، وأنه كان حقاً على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم ثم اتبعوهم حتى تقتلوهم، فإنه لا يسيغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وأنفي من في المصر منهم. ثم جعل يتتبع من في الكوفة - وكانوا يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه، فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات مما يناسب ما فعلوا -. ومنهم من حرقه بالنار، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات، ومنهم من يرمى بالنبال حتى يموت، فأتوه بمالك ابن بشر فقال له المختار: أنت الذي نزعت برنس الحسين عنه؟ فقال: خرجنا ونحن كارهون فامنن علينا. فقال: اقطعوا يديه ورجليه. ففعلوا به ذلك ثم تركوه يضطرب حتى مات، وقتل عبد الله بن أسيد الجهني وغيره شر قتلة.
|